لماذا لم تُقر التشكيلات القضائية رسمياً لغاية الآن؟ سؤال يخفي في جوهر إجابته خلافات سياسية حول توزيع القضاة، وخصوصاً أنّ رئيس الجمهورية ردّ مشروع المرسوم. لكن الصمت الذي ساد إزاء ملف التشكيلات والمناقلات، قابله إمتعاض ضمني، حكومي وقضائي. هل المشكلة فعلاً في نقل عدد من القضاة إلى مواقع ومهام لا يريدونها او يعتبرونها أقل شأناً مما هم فيه الآن؟ أو أن الخلاف هو بسبب التسابق السياسي على النفوذ؟ كل شيء وارد.
بجميع الاحوال، تعدّدت القراءات، لكن أبرز المشرّعين الدستوريين الذين عرفهم المجلس النيابي الدكتور نقولا فتّوش أجرى قراءة دستورية معمّقة كعادته، تناول فيها موضوع التشكيلات القضائية، فإستند إلى مواد دستورية، ومحطّات لبنانية وفرنسية. صحيح ان فتوش هو نائب سابق حالياً، لكن غيابه عن ساحة النجمة ترك فراغاً يدركه كل نائب وسياسي ومواطن. كانوا جميعهم ينتظرون دراساته التشريعية وشروحاته القانونية، سواء إتفقوا معه أو اختلفوا بشأن سياساته أو آرائه الدستورية.
تؤكد دراسة فتّوش أن صلاحيـة التشكيـلات القضائيـة تعـود لمجلـس القضـاء الأعلـى، وقـد وافقــت عليهـا وزيـرة العـدل، ووزيـرة الدفـاع، وتمّ توقيع مشـروع المرسـوم من قبل الـوزراء المختصيـن ورئيـس مجلـس الـوزراء. لكن رئيس الجمهورية ميشال عون ردّ المشروع في كتـاب وجهـه المديـر العـام لرئاسـة الجمهوريـة الى رئيـس مجلـس الـوزراء حسـان ديـاب بواسطـة الأمانـة العامـة لمجلـس الـوزراء. ومن هنا تجد دراسة فتّوش ان التوجيهـات توجـه من الرئيـس التسلسـلي الى الموظفيـن، لكن رئيـس الحكومـة والـوزراء ليسـوا موظفيـن، لأن السلطة التنفيذية اصبحت بعـد تعديـل الدستـور عـام 1990 تنـاط بهـم وبمجلـس الـوزراء، أي أصبحـوا هـم الحكـم وليسـوا أمنـاء سّـر: "رئيـس الحكومـة هـو رئيـس السلطـة التنفيذيـة ولا يخاطبـه مديـر عـام بكتـاب يتضمـن تقريعـاً وإنتقـاداً وتوجهـات متجـاوزاً لكـل الأعـراف الدستوريـة والقانونيـة"، لأن المديـر العـام للقصـر الجمهـوري لا صفـة لـه ولا أهليـة ولا صلاحيـة لتوجيـه كتـاب يتضمـن توجيهـات بعـد أن إمتنـع رئيـس الجمهورية عـن توقيـع مرسـوم التشكيـلات القضائيـة.
تورد الدراسة أن "الإقتنـاع يتأتـى عـن مخالفـة قواعـد الصلاحيـة، إذا لا شرعيـة خاصـة يطلـق عليهـا إسـم عـدم الصلاحيـة وهـي أحـد العيـوب الخطيـرة التـي تشـوب العمـل أو القـرار الإداري فتفسـده". تفصّل الدراسة هنا ان لهذا العيب شكلان: أولهما يتمثّل في إغتصاب السلطة، من خلال إتخـاذ قـرار إداري بمعـزل عـن أي صفـة شرعيـة، أي يتدخـل أشخـاص غربـاء تمامـاً عـن الوظيفـة العامـة، في شـؤون هـذه الوظيفـة، بإنتحالهـم صفـة الموظـف العـام. كما يأتي في السياق ذاته تدخـل سلطـة إداريـة في موضـوع يدخـل ضمـن إختصـاص السلطـة التشريعيـة أو السلطـة القضائيـة، وحتـى أيضـاً تدخـل من يعـود لـه تنفيـذ قـرار إداري في مهـام سلطـة تقريريـة. أمّا العيب الثاني فيتمثّل في عدم الإختصاص الـذي يعنـي تدخـل سلطـة إداريـة في صلاحيـات سلطـة إداريـة أخـرى.
واذا كان البيان تضمّن عبارة "التوجيهـات"، فمـن المتعـارف عليـه في القانـون الإداري أن هـذا النـوع من التدخـل، في أوامـر الخدمـة والتعاميـم التـي يوجههـا الرئيـس الى مرؤوسيـه محـدداً لهـم مـا يجـب أن يكـون عليـه موقفهـم وتصرفهـم في مواجهـة قضيـة معينـة، ومن حيـث المبـدأ ينبغـي على المرؤوس أن يتقيـد بهـذه الأوامـر. علمـاً أن الوزيـر يديـر شـؤون وزارتـه وفـق المـادة 66 ولا يتلقـى توجيهـات علـى صفحـات الإعـلام خاصـة وإن كـان مشوبـاً بعـدم الشرعيـة. وتبدو مصـادر الشرعيـة نظـاماً تسلسلـياً مـؤداه إخضـاع أجهـزة الدولـة بعضهـا للبعـض الآخـر. ويعتمـد بهـذا الشـأن المقيـاس العضـوي، أي أنـه، لتصنيـف القواعـد القانونيـة وتحديـد مرتبتهـا، يُنظـر الى السلطـة التـي صـدرت عنهـا القاعـدة: الدستـور يعلـو القانـون، والقانـون يعلـو المرسـوم، والمرسـوم يتقـدم علـى القـرار.
تستند دراسة فتوش الى محطّات عدة إتخذها مجلس الشورى الفرنسي، وتوضح انّ العيـوب تشكّـل سببـاً للإبطـال في نطـاق المراجعـة لعلـة تجـاوز حـدّ السلطـة. كما يشير المشرّع إلى أن الدستـور كـرّس القضـاء سلطـة في المـادة 20 منـه: السلطـة القضائيـة تتولاهـا المحاكـم علـى اختـلاف درجاتهـم وإختصاصاتها ضمـن نظـام ينـص عليـه القانـون ويحفـظ بموجبـه للقضـاة والمتقاضيـن الضمانـات اللازمـة. أمـا شـروط الضمانـات القضائيـة وحدودهـا فيعنيهـا القانـون، والقضـاة مستقلـون في إجـراء وظيفتهـم وتصـدر القـرارات والأحكـام من قبـل كـل المحاكـم وتنفـذ باسـم الشعـب اللبنانـي. كمـا تم الاستناد الى نص الفقـرة "هـ" من مقدمـة الدستـور علـى أن: النظـام قائـم علـى مبـدأ الفصـل بيـن السلطـات وتوازنهـا وتعاونهـا.
فصّلت الدراسة المذكورة بموضوع صلاحيات مجلس القضاء الأعلى:
أ-وضـع مشـروع المناقـلات والالحاقـات والإنتدابـات القضائيـة الفرديـة أو الجماعيـة وعرضهـا على وزيـر العـدل للموافقـة عليـه.
ب-عـدل نـص الفقـرة "ب" من المـادة 5 بموجـب المـادة 2 من القانـون رقـم 389 تاريـخ 21/12/2001 على الوجـه التالـي: لا تصبـح التشكيـلات نافـذة إلا بعـد موافقـة وزيـر العـدل.
–عنـد حصـول اختـلاف في وجهـات النظـر بيـن وزيـر العـدل وبيـن مجلـس القضـاء الأعلـى تعقـد جلسـة مشتركـة بينهمـا للنظـر في النقـاط المختلف عليهـا.
–إذا استمـر الخـلاف ينظـر مجلـس القضـاء الأعـلى مجـدداً في الأمـر للبـت فيـه ويتخـذ قـراره بأكثريـة ٧ أعضـاء ويكـون قـراره في هـذا الشـأن نهائيـاً وملزمـاً.
–تصـدر التشكيـلات القضائيـة وفقـاً للبنـود السابقـة بمرسـوم يتخـذ بنـاء على اقتـراح وزيـر العـدل.
–مع مراعـاة أحكـام تعييـن القضـاة الذيـن تلحـظ القوانيـن النافـذة تعيينهـم بمرسـوم يتخـذ في مجلـس الـوزراء، لا يرقـى ولا ينقـل أي من أعضـاء مجلـس القضـاء الأعلـى طـوال مـدة ولايتـه.
ج-تأليـف المجلـس التأديبـي للقضـاة.
د-درس ملـف أي قـاض والطلـب الى هيئـة التفتيـش القضائـي إجـراء التحقيقـات اللازمـة واتخـاذ التدابيـر والقـرارات المناسبـة.
ه-النظـر في طلبـات العفـو الخـاص المقدمـة من المحكوميـن بعقوبـة الإعـدام أو المحالـة إليـه من المراجـع المختصـة.
و-تعييـن لجنـة مؤلفـة من ثلاثـة من أعضائـه للنظـر في سائـر طلبـات العفـو الخـاص.
ز-إبـداء الـرأي في مشاريـع القوانيـن والأنظمـة المتعلقـة بالقضـاء العدلـي، واقتـراح المشاريـع والنصـوص التـي يراهـا مناسبـة بهـذا الشـأن على وزيـر العـدل.
وعلـى ضـوء كـل هـذه الوقائـع القانونيـة والصريحـة تصـدر التشكيـلات القضائيـة وفقـاً للبنـود المذكـورة بمرسـوم يُتخـذ بنـاءً علـى اقتـراح وزيـر العـدل. كما ان الدراسة الدستورية تؤكد ان توقيـع المرسـوم هو شكلـي ولا يشكـل معاملـة جوهريـة بعـد تعديـل الدستـور سنـة 1990.
يتبيّن من المرسـوم الذي وقعتـه وزيـرة العـدل ووزيـرة الدفـاع ووزيـر الماليـة ورئيـس الحكومـة وأُرسـل إلى رئيس الجمهورية للتوقيـع، ان الرئيس رفـض التوقيـع على المرسوم متذرعـاً بصلاحية لـم تمنـح لـه قانونـاً وإن وجـدت فهي صلاحيـة مقيـدة وغيـر استنسابيـة علـى الإطـلاق. وبموجـب القانـون الدستـوري الصـادر عام 1990، أصبحـت السلطـة الإجرائيـة مناطة بمجلـس الـوزراء (المادتـان 17 و65) بـدلاً من رئيـس الجمهوريـة الـذي انتزعـت منـه كـل الصلاحيـات التنظيميـة والإداريـة المذكـورة آنفـاً، وأعطـي صلاحيـات بروتوكوليـة ذات طابـع تمثيلـي فقـط (à caractère représentatif). فهـو مثـلاً:
لـم يعـد ينشـر القوانيـن ويؤمـن تنفيذهـا بمـا لـه من السلطـة التنظيميـة (مـادة 51 قديمـة)، بـل أصبـح يصـدر القوانيـن… ويطلـب نشرهـا… (المـادة 51 جديـدة)، وهـو بـات مرجعـاً غيـر مختـص فيمـا يتعلـق بتأميـن تنفيذهـا لأنـه لـم يعـد يتمتـع بأيـة سلطـة تنظيميـة، لا عاديـة ولا مستقلـة.
وهـو لـم يعـد رئيسـاً حكميـاً (de droit) لمجلـس الـوزراء، وإذا شـاء أن يترأسـه فـلا يتمتـع عندئـذ بأيـة صفـة فاعلـة دستوريـاً وقانونيـاً، إذ حـرّم عليـه النـص صراحـة أن يشـارك في التصويـت(المـادة 53 فقـرة 1).
من هنـا، يكـون المبـدأ الـذي يميّـز بيـن مجلـس الـوزراء (Conseil des ministres) الـذي يكـون عـادة في الأنظمـة البرلمانيـة الديمقراطيـة برئاسـة رئيـس الجمهوريـة، والمجلـس الـوزاري (Conseil ministériel) الـذي يترأسـه عـادة في الأنظمـة المشـار إليهـا رئيـس الحكومـة، قـد فقـد عندنـا معنـاه. فلقـد بـات رئيـس الحكومـة رئيسـاً لكـلا المجلسيـن وهـو بالتحديـد –وكمـا أسمـاه الدستـور الجديـد– أصبـح الرئيـس الحكمـي لمجلـس الـوزراء في الشكـل والأسـاس.
وهـو لـم يعـد يولـي الموظفيـن المناصـب في الدولـة (المـادة53 القديمـة) بـل أصبـح دوره مقتصـراً على توقيـع المراسيـم الخاصـة بذلـك متـى اقترنـت بموافقـة مجلـس الـوزراء الـذي بـات هـو المرجـع المختـص بالموضـوع (المـادة 56 الجديـدة)،
وكـان يمكـن أن يكـون لرئيـس الجمهوريـة، الى جانـب تأثيـره المعنـوي كرئيـس للدولـة على أعمـال مجلـس الـوزراء عندمـا يترأسـه، التأثيـر العملـي الفاعـل من خـلال رقابتـه المباشـرة على مشاريـع المراسيـم التـي تحـال إليـه بكـل حـال ويجـب أن تصـدر عنـه لأنـه هـو الـذي يصدرهـا ويطلـب نشرهـا(المـادة 65)، ولكـن مثـل هـذا التأثيـر ليـس وارداً لأن الدستـور الـذي أولاه هـذه الصلاحيـة البديهيـة، استطـرد فقيّـده بمـا يقـرر مجلـس الـوزراء في حضـوره أو غيابـه. فالمـادة 65 ذاتهـا أعطـت الرئيـس صلاحيـة الطلـب الى مجلـس الـوزراء إعـادة النظـر في أي قـرار من القـرارات التـي يتخذهـا المجلـس خـلال خمسـة عشـر يومـاً من تاريـخ إيداعـه رئاسـة الجمهوريـة. ولكـن، يقـول النـص، إذا أصـر مجلـس الـوزراء على القـرار المتخـذ أو انقضـت المهلـة دون إصـدار المرسـوم أو إعادتـه، يعتبـر القـرار أو المرسـوم نافـذاً حكمـاً ووجـب نشـره.
لذا، وإضافة الى قراءة تجارب ومحطّات لبنانية وفرنسية دستورية، تصل دراسة فتوش الى نتيجة: التشكيـلات القضائيـة أصبحـت نافـذة، وبيـان المديـر العـام للقصـر الجمهـوري فاقـد كـل أسـاس قانونـي، وكـل شرعيـة داخليـة أو خارجيـة ومخالـف لقواعـد الصلاحيـة، ومخالـف لأحكـام السلطـة المقيـدة ومخالـف لأحكـام الدستـور، وللفقـرة "هـ" من مقدمـة الدستـور ولأحكـام القانـون ويعيـق سيـر المرفـق العـام القضائـي.
ومن هنا تأتي المطالبة بالإفـراج عن التشكيـلات القضائيـة رحمـة بالنـاس في هـذه الظـروف المأساويـة، واستمـراراً للمرفـق العـام القضائـي.